تعد الزاوية الناصرية الجعفرية الزينبية الشاذلية من اكبر و اهم الزوايا بالغرب الاسلامي قاطبة و بالمملكة المغربية الشريفة خاصة. وقد بزغ نجمها مع بدء تراجع نفوذ الدولة الزيدانية من سنة 1603م، الى سنة 1626م، تاريخ سقوط اخر السلاطين السعديين في مراكش. من هنا يمكن القول ان الزاوية الناصرية نشأت تحت الظلال الوارفة للدوحة العلوية المنيفة. وقد انخرطت في سياق التحولات المرتبطة ببناء الدولة الجديدة اجتماعيا وثقافيا وعلميا.
وهكذا ساهم التكوين العلمي و الديني لشيوخ الزاوية الناصرية في عهودها الاولى، في الحركة الاصلاحية الشاملة، خصوصا فيما يتعلق بالدفاع عن السنة و الوقوف في وجه البدع و الضلالات، ولا غرو فالطريقة الناصرية توصف من اغلب دارسي التصوف بانها اقرب الطرق الى السنة النبوية و ابعدها عن الانحرافات و الشطحات و المنكرات. ومما زاد من اشعاع الطريقة الناصرية فضلا عن تبحر شيوخها في صنوف العلوم الشرعية المختلفة، تنظيمها للركب الناصري الى الديار المقدسة لأداء ما افترضه الحق سبحانه و تعالى من شعائر الحج و العمرة على المومنين، وقد عرف ان للركب طريقا سيلكه في طريق الذهاب او الاياب مما اسهم في كثرة الاتباع و المحبين من العلماء و الطلبة و الصالحين في بلاد الاسلام التي كان يمر منها الركب الناصري من الجزائر الى الحجاز.
و الحق ان الركب لم يكن للحج فقط بل كان جامعة متنقلة ومدرسة للعلم قائمة: تدريسا و ضبطا و اجازة. وقد ذكر الشيح سيدي حسين بن ناصر شقيق سيدي محمد بن ناصر في فهرسته:( ختمت على الشيخ الاخ الشقيق شمس المعارف سيدي محمد بن ناصر مختصر خليل بن اسحاق ست مرات، ثلاثا بأغلان عام ثلاثة و خمسين و اربعة و خمسين ، وختمة فيما بين مصر و طرابلس الغرب و بسكرة النخل عام سبعين ، و ختمتين فيما بين ذلك ايضا عام ستة و سبعين و سبعة و سبعين …) فهرس الحسين بن ناصر – تحقيق و تقديم ذ احمد السعيدي – دار الكتب العلمية – 2005 ص : 92
ويقول: ( و ختمت مع الشيخ رضي الله عنه: جمع الجوامع على الاصول لابن السبكي على بحر العلوم العقلية و النقلية الشيخ علي الشَّبرَامَلِّسِي الشافعي.. وانا اسمع بالقاهرة سنة سبع و سبعين و الف) م. س. ن : 99 .
وفي نفس الصفحة من الكتاب:( وقرات على الامامين الاستاذين بالجامع الازهر: الشيخ سلطان – رحمه الله ونفعنا به – الفاتحة …) م. س. ن : 98، (وعلى الشيخ علي الزعتري بالجامع الازهر… الربع المجيب على نصف الدائرة) م. س. ن : 98 .
يؤكد هذا المصدر و غيره من المصادر التي تناولت الطريقة الناصرية صحة ما ذهبنا اليه انفا من ان الرحلة الناصرية الى الحج تجمع بين قصد اداء مناسك الحج الى جانب اداء ما افترضه الله تعالى من اداء واجب طلب العلم و بذل الاوقات فيه، ولله در القائل: العلم ميت و حياته التعليم، فاذا حيي فهو خفي و ظهوره المذاكرة، فاذا ظهر فهو ضعيف و قوته المناظرة، فاذا قوي فهو عقيم و ثمرته العمل.
و قد كان من نتائج هذا الحرص الشديد على العلم مدارسة و تققيدا و ضبطا أن اخذ عن الشيوخ الناصريين العلماء و الفقهاء و الطلبة في سائر الاصقاع و البلاد حتى إن الشيخ سيدي احمد الخليفة كان يلقن الورد الناصري بالحرم النبوي الشريف، وقد حصلت له قصة نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى طلعة المشتري في النسب الجعفري – المؤسسة الناصرية للثقافة والعلم – الجزء الثاني – ص : 89، فكثر المريدون و الاتباع لهذه الطريقة، لسهولتها و يسرها و موافقتها للسنة النبوية الشريفة، ولأن الشيوخ الناصريين كانوا ينيبون عنهم من الصالحين و الفضلاء و الفقهاء من يلقن الورد الناصري كلما غادروا بلادا الى غيرها.
– التأسيس التاريخي
عرفت زاوية تمكروت اول امرها بالزاوية الانصارية نسبة الى مؤسسها الشيـخ عمرو بن أحمد الأنصاري عمرو بن احمد الانصاري النجار الدرعي الدار ابو حفص، والد الصالحة العابدة القانتة ميمونة بنت والدة القطب سيدي ابي العباس احمد بن ابراهيم. كانت وفاته سنة 1010 وقبره شهير بالزاوية عليه قبة وبإزائه مسجد للصلاة وميضأة. سنة 983 هـ . ثم سميت بالزاوية الحسينية، نسبة إلى الشيخ سيدي عبد الله بن حسين الرقي المعروف بالقباب من كبار صوفية درعة و صلحائها، ال اليه امر الزاوية فنسبت اليه و عرفت بالحسينية، وصار يلقن الورد الشاذلي بها المتوفى سنة 1045 هـ ، وبانتقال الشيخ سيدي محمد بن ناصر اليها للتدريس، تغير اسمها الى اسم الزاوية الناصرية، وبه عرفت الى يوم الله هذا.
تعاقب على إدارة أمور الزاوية بعد الشيخ سيدي عمرو بن احمد الانصاري عدة شيوخ من اهل الله العارفين اولهم سيدي عبد الله بن حسين الرقي الملقب بالقباب. وبعده حفيد الشيخ سيدي عمرو بن احمد الانصاري و تلميذ عبد الله بن حسين سيدي أحمد بن ابراهيم الانصاري، ثم جاء الشيخ سيدي محمد بن ناصر، الذي كان انتقاله الى الزاوية في بداية الامر لغرض التدريس بمسجدها الجامع بطلب من الشيخين سيدي عبد الله بن حسين القباب و الشيخ سيدي احمد بن ابراهيم الانصاري. وبعد انتقالهما، شمر الشيخ سيدي محمد بن ناصر عن ساعد العزم على التلقين و التدريس و التعليم و حقق الله الرجاء على يديه فثبت قواعد الزاوية وشيد اركانها ووطد اسسها، فشدت اليه الرحال و اناخت ببابه صنوف المكرمات و المعالي.
يقول عنه تلميذه الشيخ أبو علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي:( منهم استاذنا الامام، وقدوتنا الهمام، علم الاعلام، وشيخ مشايخ الاسلام، قدوة الطريقة، الجامع بين الشريعة والحقيقة، سيدي ابو عبد الله محمد ابن ناصر الدرعي،وانتفعت به ظاهرا وباطنا) م. س. ن: ص 79
اخذ عنه رحمه الله أئمة أعلام من مختلف جهات المغرب أشهرهم: محمد بن ابراهيم الهشتوكي ، و العياشي، و اليوسي وغيرهم.
وبعد وفاة محمد بن ناصر سنة 1085 حلفه في رئاسة الزاوية الناصرية ابنه الإمام أبو العباس أحمد الذي كان إمام عصره علما وعملا، مواظبا على سرد الحديث وعلومه والتفسير والتصوف وأصول الدين عاكفا على تدريس المؤلفات والذي اقتفى سنن أبيه في التزام الستة والدعوة ومحاربة البدع، “كما شهدت الزوايا في ايامه إقامة بنايات مدرسية طبعتها بشارات تعليمية جديدة فقد اسس إيوانا ليكون مركزا للتدريس ومن خلفه ابتنى حماما للطلبة وسواهم من الوافدين وزوده بالماء الساخن في سائر الأوقات، وبمقربة منه شيد مدرسة لسكنى طلاب العلم المجاورين.”