المقدمة
عرف الشعر العربي في عصر الانحطاط فترة طويلة من الركود والجمود والضعف ولم يستطع مواكبة مستواه الفني في عصور الازدهار، بل انه لم يستطع حتى المحافظة على هذا المستوى، فكانت النتيجة ظهور مجموعة من سمات التراجع والتخلف كالابتذال والركاكة، وضحالة المعاني، والصنعة المفرطة. أمام هذا الوضع كان لا بد من التفكير في بعث الشعر وإحيائه والارتقاء به إلى مستواه الفني في عصور الازدهار. وكان السبيل إلى ذلك هو العودة إلى التراث العربي القديم لاستلهام المقومات الفنية للقصيدة العربية التقليدية في أبهى عصور ازدهارها. والواقع أن هذه النهضة الشعرية لم تكن من توقيع الشعراء فقط، كالبارودي، وشوقي، وحافظ وغيرهم من رواد البعث الشعري، وإنما كانت كذلك بمساهمة كثير من الكتاب الذين واكبوا هذه الحركة تنظيرا ونقدا، ويأتي في طليعة هؤلاء الكتاب الباحث والناقد المصري عمر الدسوقي، صاحب هذا النص النظري الذي يحمل عنوان “المدرسة التقليدية”، وهو مقتطف من كتاب “في الأدب الحديث”. من خلال قراءة عنوان النص (المدرسة التقليدية)، نستطيع أن نقف على بعض المؤشرات الدالة على موضوعه، ذلك أن صفة “التقليدية” المرتبطة بهذه المدرسة توحي بعملية استحضار نموذج سابق ومحاكاته، وهذا كاف ليجعلنا نفترض بأن النص يتحدث عن موضوع البعث والإحياء في الشعر العربي. إذا، ما هي القضية الأدبية التي يطرحها النص؟ وما هي عناصرها الجزئية؟ وما هي الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الكاتب في معالجة هذه القضية؟ وإلى أي حد استطاع أن يقدم تصورا نظريا كاملا حول تيار البعث والإحياء؟
العرض
يتناول الكاتب قضية أدبية تتعلق بالدور الذي لعبته المدرسة التقليدية في بعث وإحياء الشعر العربي الحديث، من خلال استلهام المقومات الفنية للقصيدة العربية التراثية. وتتشكل هذه القضية المحورية من مجموعة من العناصر الجزئية: كدور البارودي و من جاء بعده من الشعراء في إحياء الشعر العربي الحديث، الخصائص الإيقاعية و البنائية والأسلوبية للمدرسة التقليدية، بالإضافة الى الخصائص المعنوية و التصويرية ووظيفة الشعر. لقد حاول الكاتب من خلال هذه العناصر أن يقدم تصورا نظريا حول المدرسة التقليدية أو ما يصطلح عليه أيضا بـ “مدرسة البعث والإحياء “، مشيرا في بداية الأمر إلى الخطوة الهامة التي أنجزتها هذه المدرسة لتجاوز مرحلة الانحطاط بكل سلبياتها الفنية كالركاكة، وضحالة المعاني، والزخرفة اللغوية الفارغة، والتقليد لعصور الضعف والعجمة. وقد أجمل هذا التصور النظري في مجموعة من الخصائص الفنية التي يمكن تصنيفها وتحديد مظاهرها المرتبطة بالأسلوب في قوة الديباجة والمتانة والجزالة ومتانة التركيب. واستخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروي الواحد، والقافية الواحدة، والوزن الواحد، على مستوى البنية الايقاعية. الى جانب استهلال القصيدة بالنسيب على عادة الشعراء القدامى، أو ترك ذلك كما فعل بعض شعراء العصر العباسي.
ومن جهة الأغراض والموضوعات، ارتبط النظم بالأغراض التقليدية كالمدح والرثاء والوصف. وهيمنت المعاني التقليدية المتداولة، ومعظمها مأخوذة من الأدب العربي القديم.اما الصورة الشعرية، فقامت على أدوات بلاغية تقليدية كالتشبيه والاستعارة وأنواع المجاز. ارتباطا بوظيفة تحقيق الفائدة أكثر من المتعة من خلال الإكثار من الحكمة والموعظة والإرشاد. وبعد تحديد هذه الخصائص الفنية المشتركة بين شعراء المدرسة التقليدية لم تفت الكاتب الإشارة إلى اختلافها قوة وضعفا، أو وجودا وعدما في بعض الشعراء عن بعض، كما لم يفته، أثناء حديثه عن بعض هذه الخصائص، أن يشير إلى بعض مظاهر التجديد التي ميزت تجارب الشعراء استجابة لروح العصر، كتنبه الشعور الوطني والإحساس القومي عند بعضهم، ولجوء البعض الآخر إلى التجديد في الموصوفات، كوصف الباخرة والطائرة وغيرهما.
لقد اعتمد الكاتب في عرض القضية السالفة، وما يرتبط بها من عناصر جزئية، بناء منهجيا يقوم على:القياس الاستنباطي، حيث انطلق من مبدأ عام يتلخص في الدور الذي لعبته المدرسة التقليدية في بعث وإحياء الشعر العربي الحديث، ثم انتقل بعد ذلك لاستعراض جزئياته وتفاصيله من خلال الإشارة إلى مختلف الخصائص الفنية التي ميزت هذه المدرسة. أما بخصوص توضيح الأفكار ومحاولة إقناع المتلقي بصحتها، فقد عمد الكاتب إلى توظيف مجموعة من وسائل التفسير والحجاج، نستعرضها كالتالي:
– أسلوب الإخبار : و من أمثلته قول الكاتب في بداية النص : « عرف البارودي كيف يعيد للشعر العربي الحديث ديباجته القوية، و ينهض به نهضة فارعة تخطت عدة قرون إلى الخلف حتى رجعت إلى عهود القوة و النضارة » ، و كذلك قوله : « ثم نهضت البلاد نهضات قوية في التعليم و إحياء التراث العربي القديم، و أخذت المطبعة تزود المتأدبين بنفائس الأدب العربي في أبهى عصوره… ».
– أسلوب المقارنة : و تبدو هذه المقارنة بشكل ضمني حينما يتحدث الكاتب عن بعض خصائص المدرسة التقليدية، ثم يستحضر ما يقابلها في عصر الانحطاط. فهو مثلا حينما يصف أسلوب الشعر التقليدي بأنه قوي الديباجة ومتين التركيب، يلتفت إلى نقيضه في عصر الانحطاط، فيصفه بالركاكة، وضحالة المعاني، والتقليد لعصور الضعف والعجمة.
– أسلوب الوصف : ونجده في النص حينما يلجأ الكاتب إلى وصف بعض الخصائص الفنية للمدرسة التقليدية، ومثال ذلك ما وصف به الشكل الإيقاعي، حيث قال : « و من خصائص تلك المدرسة كذلك استخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروي الواحد، و القافية الواحدة، و الوزن الواحد »
– اللجوء إلى التمثيل : و المقصود بذلك تقديم الكاتب أمثلة لتدعيم رأيه ووجهة نظره، و نجد هذا حينما يمثل الكاتب لشعراء المدرسة التقليدية، فيذكر البارودي، وحافظ، وعبد المطلب، و البكري، وغيرهم. كما نجد هذا أيضا حينما يمثل الكاتب للشعراء الذين تم تقليدهم في العصر العباسي، فيذكر أبا نواس، والبحتري، والمتنبي، وأبا العلاء، وابن الرومي.
وبالإضافة إلى الوسائل السابقة، يتعزز البعد التفسيري والحجاجي في النص بتوظيف الكاتب لغة تقريرية مباشرة تعتمد اللفظ البسيط والمعنى الواضح بعيدا عن كل إيحاء أو التواء في التعبير، وهذا ينسجم أولا مع طبيعة النص الذي تغلب عليه الموضوعية والعلمية في معالجة الأفكار، كما ينسجم كذلك مع مقصدية الكاتب التي ترمي إلى توضيح الأفكار وتبسيطها وتقريبها من إدراك المتلقي، حتى يتسنى له فهمها واستيعابها والاقتناع بصحتها.
ويزداد البعد التفسيري والحجاجي وضوحا في حرص الكاتب على الترابط والتماسك بين جمل النص وفقراته، وذلك من خلال مجموعة من مظاهر الاتساق كالإحالة بأنواعها المختلفة، سواء بواسطة الضمائر (ها، هم، هو، واو الجماعة…)، أو بواسطة أسماء الإشارة (هؤلاء، تلك، هذه)، أو بواسطة الأسماء الموصولة (الذين، التي).
ثم هناك أيضا الوصل، سواء ما يقوم منه على الربط التماثلي (الواو، الفاء، ثم، أو، كما، كذلك…)، أو ما يقوم منه على الربط العكسي (بل، إنما، لكن…)، أو ما يقوم منه على الربط السببي (لأنه، لأن…)، أو ما يقوم منه على الربط الزمني (قبل، كلما، أحيانا، وبعد…).
الخاتمة
بناء على ما سبق نستنتج أن النص يعالج قضية أدبية تتعلق بالمدرسة التقليدية ودورها البارز في إحياء الشعر العربي الحديث. وقد تضمنت هذه القضية مجموعة من العناصر الجزئية التي حدد من خلالها الكاتب جملة من الخصائص الفنية لهذه المدرسة كالأسلوب، والإيقاع، والبناء، والصورة، والأغراض، والمعاني، ووظيفة الشعر. وقد تمحورت هذه الخصائص أساسا حول تقليد شعراء هذه المدرسة للنموذج الشعري العربي القديم مع ميل محدود إلى التجديد. وبما أن النص عرض نظري يهدف بالأساس إلى التعريف بالقضية المطروحة، ومحاولة تقريبها من المتلقي، فقد اعتمد فيه الكاتب إستراتيجية منهجية وتفسيرية وحجاجية تقوم على مجموعة من الوسائل، كالقياس الاستنباطي، والإخبار، والمقارنة، والوصف، والتمثيل، بالإضافة إلى اعتماد لغة تقريرية مباشرة تميل في الغالب إلى توظيف الجملة الخبرية. ويزيد الكاتب من دعم البعد التفسيري والحجاجي بالحرص على خلق ترابط بين الجمل والأفكار والفقرات، وذلك من خلال مجموعة من مظاهر الاتساق كالإحالة، والوصل، والاتساق المعجمي. وعلى العموم، فان الكاتب قد نجح في تقديم تصور نظري شامل وموسع حول المدرسة التقليدية أو ما يعرف بـ “مدرسة البعث والإحياء”، وهذا يجعل من النص وثيقة هامة يمكن الرجوع إليها لإضافة رصيد معرفي حول هذه المدرسة وروادها وخصائصها الفنية. كما أنه نجح إلى حد كبير في عرض أفكاره وتوضيحها ومحاولة الإقناع بصحتها، وذلك باستعمال الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية المناسبة.