تمهيد
اضطلعت الزاوية الناصرية، منذ بدء أمرها، بدور بالغ الأهمية في ميادين العلم والتعليم، إلى جانب تربية المريدين، حيث تصدر شيخها الأول سيدي محمد بن ناصر[1]، للتعليم بعد استقراره تامكروت قادما اليها من أغلان بطلب من الشيخين الجليلين سيدي عبد الله بن حسين القباب وسيدي احمد بن إبراهيم الانصاري. وبذلك ارتفعت بها منارة العلم في زمن استشرى فيه الاضطراب وتتالت على المغرب الأوبئة والمجاعات، فقصدها طلبة العلم من مختلف الآفاق، من أجل التلقي والاخذ على أيدي علمائها. ومن البديهي أيضا، أن المميزات العامة التي طبعت الحركة العلمية بتامكروت في ذلك العهد، كان يغلب عليها ثلاثة جوانب كبرى في الدراسات، تجلت في العلوم الدينية واللغوية والأدبية. فكان لها بالغ الأثر في ترسيخ التعاليم الإسلامية وتعميق اللغة العربية، في البادية المغربية.
طرق التدريس
المقصود بطرق التدريس مجموع العادات والتقاليد التي يسلكها المعلمون أثناء عملية التلقين، ويغلب على الظن أن التقرير كان يطغى على تلك الطرق في مختلف مراحل الدراسة.
أ – التقرير:
يظهر أن طريقة التدريس في تمگروت لم تكن مخالفة لما كان معروفا بالجنوب المغربي آنذاك، فكان الشيخ سيدي محمد بن ناصر يعتمد بالأساس على النص.
جاء في فهرسة اليوسي: (وحقيقة الإقراء هي تصحيح المتن، وحل المشكل والزيادة على ذلك ضررها أكثر من نفعه)[1]
يفهم من هذا النص أن المعلم يجب عليه أن يقتصر على حل مستغلقات المتن بالدرجة الأولى، وفي المرتبة الثانية يتصدى لشرحه والتعليق عليه في حدود ما يكون ضروريا للفهم والإيضاح، بدون إطناب ولا تطويل.
ومن ثم، كان المعلم في المدرسة الناصرية يترك تقريرات الآخرين، ويعرض عن الخلافيات، لأنه يفضل إعطاء معلومة مجردة لكنها دقيقة وصحيحة؛ لا يدعمها إلا بشواهد قوية، من القرآن والحديث والشعر وكلام العرب، على أن يهيم في غيابات الاحتمال والخلاف.
ومن أمثلة ذلك، ما يحكيه الحسن اليوسي عن شيخه سيدي محمد بن ناصر؛ أنه قدم، ذات مرة إلى تامگروت فوجده يقرر لأولاده ديوان الشعراء الستة، ويطرر على النسخة ما يحتاجه من شرح الغريب ونجو ذلك[2]. أي أن الشيخ اعتمد التقرير طريقة ومنهاجا، والنص الشعري مادة دراسية؛ أي تقديم الشروح التي تدعو إليها حاجة المتعلم. لكن كيف تقدر تلك الحاجة؟
لعل الأمر يختلف من شيخ إلى آخر؛ إذ هو نسبي لأنه يرتبط بمستوى الشيخ العلمي، وبمستوى المتعلمين، لذلك تظل الحاجة أمرا تقليديا، يحدده الشيخ. وبهذا الصدد يقول أحمد بن خالد الناصري: (وكانت طريقة الشيخ سيدي محمد بن ناصر رضي الله عنه في درس العلوم الاقتصار على حل كلام النص وما يتعلق به من كلام الشارح، ويقول هذا أنفع للمبتدئين، وأما الإكثار من الأنقال ففيه ضرر عليهم)[3]. أي إن هذه الطريقة التي يقتصر فيها الشيخ على حل المتن بدون إطناب أو استطراد كانت خاصة بالمبتدئين، أي إن الغاية هي تلقين نصوص العلوم الأولية، وهي غالبا ما تكون متونا مختصرة، كثير منها منظوم يحتاج الطالب المبتدئ إلى استيعابها كما هي.
ويكون الشيخ هو المصدر أو المرجع، فهو يلقي، والمتعلم يتلقى. ويقدم اليوسي بدل ذلك آدابا ينبغي للمعلم أن يلتزم بها منها: أنه لا ينبغي للمعلم أن يرد على خطأ المتعلم بالتعنيف والتزييف والتجهيل، لأن ذلك يخمد قريحة متعاطي العلم، بل يجب أن يعامله بلطف ليجرئه على الفهم والبحث، ويرخي له العنان ومن ذلك أيضا مراعاة المعلم لمستوى المتعلمين، ومخاطبتهم بما يستطيعون فهمه[4].
يظهر أن اليوسي يدعو إلى تفكيك النص وجعله ميدانا لتطبيق العلوم التي حصلها المتعلم من نحو وصرف وبلاغة ولغة وبيان وغيرها.
وبالجملة، فإن اليوسي – وهو ليس الوحيد في هذا الرأي – يقترح طريقة تدمج الحوار في التقرير، عن طريق إشراك المتعلمين في بناء الدرس؛ مع مراعاة الآداب المنصوص عليها عند أهل التربية، وينبغي أن يرقى ذلك الدرس إلى مستوى، يكون قابلا لأن يصير تأليفا في النهاية، ويحث اليوسي في كل ذلك، على سلوك التدرج، بحيث ينطلق الدرس من اللفظ وينتهي إلى الاستخلاص والتقعيد.
وعلى الرغم من سيادة الطريقة التقريرية في زاوية تمكروت، وفي غيرها، فإن طالب العلم النهم لم يكن يتوقف عند التلقي والتسليم دائما، بل كان يناظر ويذاكر ويعترض. وكانت هذه الأمور تعن له في أثناء عقد المجالس والحلق العلمية.
ب- المجالس العلمية:
كانت من عادة الشيخ سيدي أحمد الخليفة ان يعقد مجالس علمية، يحضرها جم غفير من العلماء سواء من أبناء الزاوية، أو الوافدين عليها، منهم محمد الصغير الورزازي، وأحمد الهشتوكي والحسين الشرحبيلي وإبراهيم السباعي ومحمد الكبير الناصري وابنه موسى الناصري وحفيده محمد المكي الناصري. كما كان يحضرها الطلبة المتوسطون والمنتهون.
إلا أن المجالس المشار إليها لم تكن في – غالب الأحيان – تنكب على دراسة كل الفنون العلمية، بل كانت تعنى بالحديث بصفة خاصة.
ويصور اليوسي هيئة انعقاد المجلس، فيشير إلى أن المدرس ينبغي أن يتصدر مجلسه، فيعتلي أريكة أو لحافا أو أي شيء يميزه عن الطلبة، مما يسمح له بمراقبتهم. ويجلس الطلبة بين يديه متحلقين، ليسهل عليه الإقبال عليهم جميعا. ومن حل محلا فلا ينتقل عنه ولا يجلس أحد في مجلس أحد، ما لم يكن بأمر الشيخ، أو لسبب ظاهر يعذر به كأن يكون قليل السمع أو البصر، أو قصير القامة. ثم يعين الشيخ أنجبهم ليجلس منتحيا عنهم، قريبا منه، ليكلفه بسرد المتن.
وهكذا ينطلق الدرس بعدما يقوم السارد بقراءة جزء من المتن، فيتدخل الشيخ، العالم بما ينبغي من شرح أو تعليق، وما إلى ذلك. وقد يفسح المجال للمناقشة، فيتدخل طالب العلم ليلح على الزيادة في التوضيح، ويستفسر آخر عن لفظة أو معنى.. وهذا بالنسبة «للمنتهين» من الطلبة.
وقد تتعدد تلك المجالس، فتبلغ أحيانا خمسة أو ستة، كما كان الشأن في عهد الشيخ يوسف الناصري[5]، وهذا أمر طبيعي، نظرا لكثرة الطلبة في بعض الفقرات، فقد بلغ عددهم في عهد سيدي أحمد الخليفة ألفا وأربعمائة طالب[6]، معظمهم من المنقطعين.
أما المجالس التي كان شيوخ الزاوية وعلماؤها يعقدونها لصالح «عموم الناس»، فإنها كانت موسمية، ينكبون فيها على سرد الحديث، وخاصة «صحيح البخاري». إلا أن سليمان بن يوسف الناصري قد أشار إلى أن والده الشيخ يوسف لم يكن يقطع قراءة الحديث؛ كلما ختمه ابتدأه في غالب أحواله، إلا إذا شغله عنه شغل كبير أو سفر.[7]
والغالب على الظن أن تلك المجالس كانت تنعقد طوال شهر رمضان، منذ عهد الشيخ سيدي محمد بن ناصر، الذي كان يختص هذا الشهر بسرد البخاري على عادة ابن غازي بفاس وبطلب من بعض تلاميذ الزاوية كالحسن اليوسي، والذين كانوا يترددون لزيارة الشيخ، تم تأخير الختم إلى يوم عاشر محرم، بسبب تعذر حضورهم في شهر رمضان. فجرت العادة بتأخيره، منذئذ، إلى ذلك اليوم. واستمر الأمر على ذلك المنوال حتى زمن الشيخ يوسف الناصري. فكان يجتمع لذلك جم غفير من الناس، حتى مثل له ابن عبد السلام بما كان يجتمع برباط شاكر وغيره من المواسم المعروفة آنذاك.[8]
خاتمة
والخلاصة، أن المدرسة التربوية المغربية، وضمنها مدرسة تامكروت الناصرية، لم تكن بمنأى عن الأخذ بالنظريات التربوية الناجعة؛ والتي ذكرنا من بينها اجتناب الاستبداد، واعتماد الحوار والمناظرة وغير ذلك. والدليل على نجاعتها أنها خرجت أمثال اليوسي وابن عبد السلام الناصري وأحمد الورزازي وابن سليمان الروداني واللائحة طويلة. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يمجد المدرسة الناصرية كبار علماء العصر أمثال المحبي ومرتضى الزبيدي وأبي القاسم الزياني.
أحمد عمالك — عن دعوة الحق العدد 365 محرم 1423/ مارس 2002 – بتصرف –
[1] أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحسين بن ناصر. امام كبير وعلم من اعلام المغرب. ولد 1011 هــ وتوفي 1085 هــ. ترجم له اليوسي في المحاضرات، والافراني في الصفوة والحضيكي في طبقاته والقادري في النشر والناصري في الطلعة ومحمد حجي في الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين
[2] الحسن اليوسي: فهرسة، م. خع. الرباط 1338ك، ص: 17 – 18.
[3] اليوسي المحاضرات: 1/175
[4] أحمد بن خالد الناصري: طلعة المشتري في النسب الجعفري 1/172
[5] الحسن بن مسعود اليوسي: القانون. المطبعة الحجرية، فاس، ص:126.
[6] تـوفي رحمه الله سنة 1197 هـ
[7] محمد بن موسى الناصري: الدرر المرصعة بأخبار أعيان وادي درعة. دراسة وتحقيق: محمد الحبيب نوحي. كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط 1988. مرقون، ص:59.
[8] سليمان بن يوسف الناصري: إتحاف الخل المعاصر برسائل الشيخ محمد ابن ناصر. نسخة من زاوية تانغملت. ص:16.
[9] محمد بن عبد السلام الناصري: المزايا بما أحدث من البدع بأم الزوايا