عرفت الأوساط
الأدبية في منتصف القرن العشرين (الشعر الحر) واختُلفَ فيمن كانت له الأسبقية في
اكتشافه .
يقول بدر شاكر
السياب في مقدمة ديوانه ( أساطير ) ان أول تجربة لهُ من هذا القبيل كانت في قصيدة
( هل كان حباً ) من ديوان —- أزهار ذابلة – و قد صادف هذا النوع من الموسيقى
قبولاً عند كثير من الشعراء الشباب يذكر منهم الشاعرة نازك الملائكة .
تقول نازك الملائكة في كتابها ( قضايا الشعر
المعاصر ) : إن ” بداية حركة الشعر الحر سنة 1947 م في
العراق ، بل من بغداد .. وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر هي قصيدتي (
الكوليرا ) وقد نشرت في بيروت ، و وصلت نسخها في بغداد في أول كانون
الأول 1947، و في النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب
( أزهار ذابلة ) و فيه قصيدة حرة الوزن له من الرمل
)
و قالت أن سبب
اكتشافها للشعر الحر : ( وكنتُ
قد كتبتُ تلك القصيدة ، أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء ( الكوليرا
) الذي داهمها ، و قد حاولتُ فيها التعبير
عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر ، و قد
ساقتني ضرورة التعبير إلى اكتشاف الشعر الحر ) وهنا نلاحظ أن كلاً من بدر و نازك
يدعي الأسبقية ، إلا أن بدر السياب لم يدَّع اكتشاف
الشعر و إن كان يدّعي الأسبقية على نازك ، بينما نازك تدّعي الأسبقية والاكتشاف
معاً .غير ان نازك الملائكة تتفاجأ بوجود قصائد حرة مؤرَّخة قبل تأريخ أول
قصيدة حرة لها .
تقول : ( في عام 1962م صدر كتابي ( قضايا الشعر
المعاصر ) وفيه حكمت أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن
العربي . ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعراً
حراً قد نُظمَ في العالم العربي قبل سنة نظمي لقصيدة ( الكوليرا ) . ثمّ فوجئت بعد
ذلك أن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية و الكتب منذ سنة 1932 م ،
وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأني لم أقرأ بعد تلك القصائد في
مصادرها …. ) إلى أن تقول : ( ثمّ عثرتُ أنا نفسي على قصيدة حرة
منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر السياب للشاعر بديع حقي )
وتورد في
الكتاب مقطع من القصيدة . ثمَّ تقول :
( إن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه (
النقد الأدبي الحديث في العراق ) قصيدة من الشعر الحر عنوانها ( بعد موتي ) نشرتها
جريدة العراق تحت عنوان ( النظم الطليق ) وفي تلك النسة المبكرة من تاريخ الشعر
الحر لم يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه و إنما وقَّع ( ب . ن ) ) انتهى كلام نازك
الملائكة . ثمَّ تقتبس مقطعاً وتورده من تلك القصيدة . و لو لاحظنا أنَّ القصيدة نشرت على أنها نظم
طليق و الدلالة الفظية لكلمة طليق هي دلالة لفظية لكلمة حر. وترجّح نازك الملائكة أنه
أقدم نص من الشعر الحر ، وطرحت سؤالاً . ”
هل نستطيع أن
نحكم بأن حركة الشعر بدأت في العراق سنة 1921 م ؟ أو أنها بدأت في مصر سنة 1932 م
؟
وتجيب : ” الواقع
أننا لا نستطيع ، فالذي يبدو لي أن هناك أربعة شروط ينبغي أن تتوافر لكي نعتبر
قصيدة ما هي بداية هذه الحركة ” وتقصد حركة الشعر الحر .
# شروط الملائكة
لاعتبار قصيدة ما أو قصائد هي بداية حركة لشعر حر .
1 – أن يكون ناظم
القصيدة واعياً أنه قد استحدث بقصيدته أسلوباً وزنياً جديداً سيكون مثيراً أشد
الإثارة حين يظهر للجمهور .
2 – أن يقدم الشاعر
قصيدته تلك أو ( قصائده ) مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا
اللون في جرأة وثقة ، شارحاً الأساس العروضي لما يدعو إليه .
3 – أن تستتثير
دعوته صدى بعيداً لدى النقاد و القراء فيضجون فوراً – سواءً أكان ذلك ضجيج إعجاب
أم استنكار – و يكتبون مقالات كثيرة بشأنه .
4 – أن يستجيب
الشعراء للدعوة ويبدأوا فوراً باستعمال اللون الجديد ، وتكون الاستجابة على نطاق
واسع يشمل العالم العربي كله .
وهي بهذا تُعلل
أن القصائد التي ظهرت قبل بداية عام 1947 م لا تعتبر بداية حركة لأنها لا تحقق
أياً من هذه الشروط .
# قصيدة الكوليرا
ليست شعراً حراً .
يعتبر الدكتور
السيد مصطفى جمال الدين أن قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة ليست شعراً حراً بالمعنى
الذي نعرفه اليوم ، و إنما هي موشحة ذات أدوار أربعة و للتفاصيل حول هذا الموضوع
راجع كتاب السيد جمال الدين في كتابه ( الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى
التفعيلة) .
# الشعر الحر و
البند .
تقول نازك
الملائكة إن أعظم إرهاص للشعر الحر هو مايعرف بالبند ، بل تعتبر أن البند نفسه هو
شعر حر لثلاثة أسباب .
1 – لأنه شعر
تفعيلة لا شعر شطر .
2- لأن الأشطر فيه
غير متساوية
3- لأن القافية
فيه غير موحدة .
و البند : هو
شعر يقوم إيقاعه على أساس التفعيلة الواحدة المتكررة بحرية تامة ، ولم يستخدم فيه
إلا بحرين ، بحر الرمل بتفعيلته ( فاعلاتن ) و بحر الهزج بتفعيلته ( مفاعيلن ) و
أحيانا يتم الخلط بين البحرين في بند واحد لمكان التشابه بين تفعيلتيهما ، فإن (
مفاعيلن ) تتألف من وتد وسببين و لو قُدّم السبب الأخير لصارت ( لن مفاعي )
المساوية لـ ( فاعلاتن ) . إلا أن البند يُكتب كما يُكتب النثر تماماً
بتكرار ( فاعلاتن ) او ( مفاعيلن ) على طول السطر يليه سطر آخر … وهكذا …
و يشير مصطفى
جمال الدين بأنه لايعرف بالضبط متى نشأ البند في الأدب العراقي ، ويقول :
” لعلَّ
أقدم ماوصل إلينا هي بنود شهاب الدين الموسوي المعروف ( بابن معتوق الحويزي )
المتوفى عام 1087 هـ ”
ولقراءة نماج
من البند ومعرفة تفاصيل أكثر عنه راجع
قضايا الشعر
المعاصر لـ نازك الملائكة و الإيقاع في الشعر العربي … لمصطفى جمال الدين .
# نازك لم تقرأ
البند قبل نشرها لقصيدة الكوليرا .
تقول نازك أنها
نظمت الشعر الحر لأول مرة عام 1947 م وكانت تعرف ( البند ) اسماً فقط لأنها لم تقرأ بنداً قبل
عام 1953 م و تبرر أن البند لم يرد في الكتب التي كانت مقررات للدراسة الأكاديمية
و لا أشار إليه أي كتاب قرأته .
وتقول أن أغلب
شعراء خارج العراق لم يسمعوا بالبند إلا بعد صدور كتابها قضايا الشعر المعاصر ،
رغم صدور كتاب ( البند في الأدب العربي ، تاريخه ونصوصه ) لـ عبدالكريم الدجيلي عام 1959 م أي
بعد نشر نازك والسياب لأول قصائدهم الحرة باثنتي عشر سنة وتم تداول كتاب الدجيلي
في حدود العراق فقط ولم يحظَ بالانتشار الواسع .
وتشير نازك
أنها قرأت البند عام 1953 م أي بعد نظمها لأول قصيدة حرة عام 1947 م ،
كما تستبعد
أيضاً أن يكون بدر شاكر السياب قد قرأ البند في عام 1946 م ، حيثُ أنه خريج قسم
اللغة الإنجليزية . و حيثُ تصف نفسها بأنها على قوة معرفة بالتراث
العربي و لم تعرف البند قبل عام 1953م أي بعد نظمها لأول قصيدة حرة بست سنوات .
وتؤكدعلى ذلك
بأن الكتاب الوحيد المطبوع عن البند هو كتاب الدجيلي عام 1959 م .
وبهذا تنفي
نازك الملائكة أن يكون الشعر الحر وليداً للبند .وإن كان بينهما الشبه الكبير .
# الشعر الحر و
التسمية .
مع ظهور هذا
الوليد الشعري الجديد أطلقت نازك تسميتها عليه فسمته ( الشعر الحر )
ثم جاءت تسميات
عديدة منها
( الشعر المنطلق
)، ( حركة الشعر الجديد ) و ( حركة الشعر الحديث )
فيأتي الشاعر
صلاح عبد الصبور عام 1961 م و يعلن ارتيابه من لعبة التسميه فيقول :
” كثيراً
مايكون الاسم ظالماً لمسمّاه ، أو ملقياً عليه ظلالاً من الشبهات و خاصة إذا كان
هذا الاسم وصفاً ، لأن الصفة تستدعي نقيضها ، كما يستدعي البياض ذكر السواد .
وعنئذٍ تلتمع المقارنة ولا ينال الاسم رضا سامعيه إلا إذا اتضحت المناقضة أيما
اتضاح و ثبتت أشكالها و ألوانها )
وبهذا راح صلاح
عبد الصبور يدعو إلى تعديل مصطلح الحديث منادياً :
( حبذا لو أسعفنا
ناقد بكلمة أخرى )
وفي عام 1962
جاء عز الدين الأمين من السودان مستجيباً لنداء عبد الصبور ويسمي هذا الكائن
الشعري بـ ( شعر التفعيلة ) . وهكذا جاء الاسم مطابقاً للمسمى .
# شعر التفعيلة و
الأساس العروضي .
لا يختلف شعر
التفعيلة في بحوره عن البحور التي اكتشفها الخليل ، لكنما الجديد فيه هو هو تصرفه
في عدد التفعيلات في هذه الأبحر ، و توزيعه الموسيقي .
و الأساس فيه
يقوم على وحدة التفعيلة .
بحيث لو تم
إنشاء قصيدة من بحر الرمل فسيجري تكرار التفعيلة ( فاعلاتن ) في الأشطر و لايلتزم الشاعر بعدد
معين في كل شطر .
و البحور التي
تلائم شعر التفعيلة هي البحور الصافية و التي يتألف شطراها من تكرار تفعيلة واحدة
مثل : الكامل ،
الرمل ، الهزج ، الرجز ،و المتقارب و المتدارك بالإضافة
إلى مجزوء الوافر .
و كذلك نوعين
البحور الممزوجة مثل الوافر و السريع .
أما بالنسبة
لبقية البحور مثل الطويل والبسيط و المنسرح والخفيف …. فإنها غير ملائمة لشعر
التفعيلة وإن كانت هناك محاولات من شعراء بارزين في كتابة شعر تفعيلة من هذه
الأبحر الممزوجة إلا أنها لم تحظَ بالنجاح ، و مما يدل على ذلك أنها محاولات نادرة
جداً.