الزَّاهِدُ الْعَارِفُ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْبَغْدَادِيُّ الْمُحَاسِبِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الزُّهْدِيَّةِ يَرْوِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ يَسِيرًا. رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَسْرُوقٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَالْجُنَيْدُ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ الْفَقِيهُ، إِنْ صَحَّ.
قَالَ الْخَطِيبُ: لَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فِي الزُّهْدِ، وَأُصُولِ الدِّيَانَةِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ.
قَالَ الْجُنَيْدُ: خَلَّفَ لَهُ أَبُوهُ مَالًا كَثِيرًا فَتَرَكَهُ، وَقَالَ: لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ. وَكَانَ أَبُوهُ وَاقِفِيًّا.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مِقْسَمٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ الْمُحَاسِبِيَّ مُتَعَلِّقًا بِأَبِيهِ يَقُولُ: طَلِّقْ أُمِّي، فَإِنَّكَ عَلَى دِينٍ، وَهِيَ عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ الْجُنَيْدُ: قَالَ لِي الْحَارِثُ: كَمْ تَقُولُ: عُزْلَتِي أُنْسِي، لَوْ أَنَّ نِصْفَ الْخَلْقِ تَقَرَّبُوا مِنِّي، مَا وَجَدْتُ لَهُمْ أُنْسًا، وَلَوْ أَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ نَأَوْا عَنِّي، مَا اسْتَوْحَشْتُ. وَاجْتَازَ الْحَارِثُ يَوْمًا بِي، فَرَأَيْتُ فِي وَجْهِهِ الضُّرَّ مِنَ الْجُوعِ، فَدَعَوْتُهُ وَقَدَّمْتُ لَهُ أَلْوَانًا، فَأَخَذَ لُقْمَةً، فَرَأَيْتُهُ يَلُوكُهَا، فَوَثَبَ وَخَرَجَ، وَلَفَظَ اللُّقْمَةَ، فَلَقِيتُهُ فَعَاتَبْتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا الْفَاقَةُ فَكَانَتْ شَدِيدَةً، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّعَامُ مَرْضِيًّا، ارْتَفَعَ إِلَى أَنْفِي مِنْهُ زَفْرَةٌ، فَلَمْ أَقْبَلْهُ.
وَ من اقواله:
- جَوْهَرُ الْإِنْسَانِ الْفَضْلُ، وَجَوْهَرُ الْعَقْلِ التَّوْفِيقُ.
- تَرْكُ الدُّنْيَا مَعَ ذِكْرِهَا صِفَةُ الزَّاهِدِينَ، وَتَرْكُهَا مَعَ نِسْيَانِهَا صِفَةُ الْعَارِفِينَ.
قُلْتُ: الْمُحَاسِبِيُّ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، فَنُقِمَ عَلَيْهِ. وَوَرَدَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَثْنَى عَلَى حَالِ الْحَارِثِ مِنْ وَجْهٍ، وَحَذَّرَ مِنْهُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَرْذَعِيُّ: شَهِدْتُ أَبَا زُرْعَةَ الرَّازِيَّ، وَسُئِلَ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ وَكُتُبِهِ، فَقَالَ: إِيَّاكَ وَهَذِهِ الْكُتُبَ، هَذِهِ كُتُبُ بِدَعٍ وَضَلَالَاتٍ. عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ تَجِدُ غُنْيَةً، هَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَالْأَوْزَاعِيَّ صَنَّفُوا فِي الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ؟ مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى الْبِدَعِ!
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: تَفَقَّهَ الْحَارِثُ، وَكَتَبَ الْحَدِيثَ، وَعَرَفَ مَذَاهِبَ النُّسَّاكِ، وَكَانَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَوْضِعٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْطِ وَمَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ هَجَرَهُ أَحْمَدُ، فَاخْتَفَى مُدَّةً. وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. سير اعلام النبلاء – ج 12 ص:110